بريكست .. الطلاق البريطاني من الإتحاد الأوروبي على المحك
تميزت العلاقة البريطانية الأوروبية قبل الإستفتاء البريطاني على مغادرة الإتحاد الأوروبي (بريكست Brexit) بأنها حالة يمكن وصفها بـ "عدم الإرتياح المتبادل" القائمة على تاريخ طويل من عدم الثقة وعدم الإنسجام في التوجهات والرؤى بين بريطانيا والجماعة الأوروبية, خاصةً مع الدولتين الكبيرتين في الإتحاد, ألمانيا وفرنسا. ولم تكن بريطانيا يوماً متحمسةً لعملية التكامل والإندماج الأوروبي إذ لم تكن بين الدول الست المؤسسة بل نأت بنفسها عنها, وتأخر انضمامها إليها حتى عام 1973 بعد أن عارضت فرنسا طلب إنتسابها مرتين كما عرقل الموقف البريطاني إستكمال الإندماج الأوروبي في عدة مناسبات.
(إعرف أكثر عن إتفاقية روما)
ولطالما اعتبرت بريطانيا نفسها - ولا سيما المحافظين فيها - أنها دولةٌ أطليسةُ أكثر من كونها دولة أوروبية متخدةً سياسة إقتصادية وخارجية أكثر قرباً من الولايات المتحدة, لكن ذلك لم يمنعها من التطلع لتحقيق مصالح كبرى سياسية واقتصادية من خلال الإنضمام للنادي الأوروبي من ناحية والإستمرار في تأدية دورها التاريخي في منع هيمنة فرنسية - ألمانية مشتركة على القرار الأوروبي من ناحية أخرى.
في البداية, يعد الإتحاد الأوروبي أقوى إقتصاد في العالم فهو يضم مجموعة من الدول المتقدمة في كافة المجالات الإقتصادية والعلمية ويتكون الإتحاد من 28 دولة. وقد تم تأسيسه بناءً على الإتفاقية الموقعة عام 1992 المعروفة بإسم "معاهدة ماستريخت" من قبل مجموعة الدول الست (ألمانيا الغربية, فرنسا, إيطاليا, هولندا, بلجيكا ولوكسمبورغ "يطلق على آخر 3 دول إسم دول بينيلوكس Benelux") وتعود فكرة إنشائه إلى سنة 1951 مع تشكيل الجماعة الأوروبية للحديد والفحم والصلب, وما لبث إلى أن بدأت بقية الدول الأوروبية بالانضمام حتى كانت كرواتيا أحدث الدول المنضمة إليه سنة 2013.
(إعرف أكثر عن معاهدة ماستريخت)
وبالنسبة لبريطانيا, هناك مجموعة من الأسباب التي دفعتها نحو اتخاذ مثل ذلك القرار هي:
- تخوفها من سيطرة دول منطقة اليورو الـ 19 على مجريات اتخاذ القرار في الإتحاد الأوروبي, إذ يؤكد الخبراء أن الإتحاد النقدي الذي رفضت بريطانيا الدخول فيه أصبح محور إتخاذ القرار في الإتحاد الأوروبي وأصبحت جميع القرارات تتطلب تفاوضاً من قبل أعضائه في البداية ثم يتم عرضها بعد إتفاق الأعضاء في منطقة اليورو على دول الإتحاد الأوروبي مجتمعة.
- التذمر من الرسوم الأوروبية: الإتحاد الأوروبي كغيره من المنظمات الأوروبية يفرض رسوماً على الدول المنضمة إليه كل بحسب قوته الإقتصادية وتعافيه, ولكن بريطانيا التي تعتمد سياسة تقشفية بسبب العجز في موازنتها تتذمر من الرسوم الأوروبية التي تثقل كاهل خزينتها التي يجب عليها دفع 55 مليون جنيه إسترليني يومياً.
- الإفتقار إلى الديموقراطية: بعض البريطانيين وهم الذين صوتوا لصالح الخروج من الإتحاد الأوروبي يرون أن نظام الإتحاد يفتقر إلى الديموقراطية المعمول لها في النظام البريطاني ويستشهدون بالصلاحيات الواسعة للمفوضية الأوروبية غير المنتخبة التي يحق لها وضع مشاريع قوانين على البرلمان الأوروبي المنتخب مباشرة من الشعوب الأوروبية.
- قوة عسكرية أوروبية موحدة: في ظل التحديات الجيوسياسية التي تحيط بالإتحاد الأوروبي فإن فكرة إنشاء قوة عسكرية موحدة تأتي في الأذهان خاصةً للتصدي لروسيا وغيرها, وهذا ما اعتبرته بريطانيا نوعاً من التحديات فضلاً عن إستعادة وضع الكتلة في السياسة الخارجية على مستوى العالم.
- الخوف من الإرهاب: زيادة الهجمات الإرهابية في بعض الدول الأوروبية مؤخراً دفعت المواطن البريطاني إلى التفكير في أن الإنفصال عن الإتحاد الأوروبي سيوقف إتفاقية الحدود المفتوحة بين دوله وهو ما قد يحد حركة المواطنين الأوروبيين ومن ثم يحول دون مجيء الإرهابيين إلى بريطانيا.
- المخاوف من إنضمام تركيا للإتحاد: إستطاع قادة سياسيون في معسكر خروج بريطانيا من الإتحاد الأوروبي التأثير على المواطنين البسطاء وخلق فزاعة وهمية لديهم بخصوص تبعات إنضمام تركيا للإتحاد وتطوير الأمر على أنه يهدد بفتح حدودها لتدفق آلاف اللاجئين الموجودين فيها حالياً إلى الدول الأوروبية.
إلى جانب تلك الأسباب التي دفعت بريطانيا للمضي قدماً في بدء معاملة الخروج من الإتحاد الأوروبي, كانت الوعود الفضفاضة بالإزدهار والتجارة الحرة والنفوذ الدولي الخاص ببريطانيا وسلطة التشريعات الوطنية هي الأهم في هذه المعادلة.
فعلى صعيد الوعود الفضفاضة بالإزدهار فهي وعود منّى بها المعسكر الرافض للبقاء المواطن البريطاني، حيث ظلت كلمات رئيس بلدية لندن السابق بوريس جونسون، مصاحبة للمواطن البريطاني داخل اللجان حيث لم ينسَ مقولته: "إذا صوتنا في 23 يونيو/حزيران واستعدنا السيطرة على بلادنا واقتصادنا وديمقراطيتنا، نستطيع عندها أن نزدهر كما لم نزدهر من قبل".
تلك الوعود امتلأت بها الصحف المؤيدة للخروج، ومنها صحيفة "صنداي تايمز"، التي قالت، الأحد الماضي: "لو كان هناك دبلوماسية أفضل لكانت ستجعل الاستفتاء غير ضروري ولكن الآن السؤال أمام الناخبين، فالخروج من الاتحاد الأوروبي هو أفضل طريقة لوقف المزيد من الاتحاد الاقتصادي والسياسي بين الطرفين".
وعلى صعيد التجارة الحرة فقدّم معسكر المعارضين للبقاء تصوراً عن أوضاع التجارة عقب الخروج، كانت سبباً كافياً لدى المواطن البريطاني إلى توقع الأفضل، حيث يتصور المواطن البريطاني أن الرحيل سيمكن بلاده من إقامة علاقات اقتصادية مع الاتحاد الأوروبي دون خضوعها لقوانين الاتحاد، حيث يمكنها عمل اتفاقيات تجارية مع دول مهمة مثل أمريكا والهند والصين، بالإضافة لمساعي إقامة منطقة تجارة حرة.
وعلى صعيد النفوذ الدولي الخاص ببريطانيا فيعتقد البريطانيون أن تأثير بلادهم داخل الاتحاد الأوروبي ضعيف، وفي حال رحيلها عن الاتحاد ستتمكن من التصرف بحرية والحصول على مقاعد في مؤسسات عالمية كانت خسرتها بسبب انضمامها للاتحاد الأوروبي كمنظمة التجارة العالمية.
كل هذه الأسباب والمخاوف التي تذرع بها السياسيون البريطانيون تقابلها تداعيات وتحديات خطيرة سوف تحدث تباعاً عند إعلان إنتهاء عملية الطلاق البريطاني من الإتحاد الأوروبي, فمن المتوقع أيضاً أن تكون هناك تداعيات كبيرة متعلقة بحرية تنقل الرعايا البريطانيين داخل الاتحاد الأوروبي إذ يوجد نحو 1.26 مليون بريطاني يعيشون في دول أوروبية بينها إسبانيا (381 ألفاً) وإيرلندا (253 ألفاً) وفرنسا (172 ألفاً) وألمانيا (96.9 ألفاً) وإيطاليا (72.23 ألفاً).
كما كانت عضوية الاتحاد الأوروبي تمكن المواطن البريطاني من التنقل بحرية والعمل داخل دول الاتحاد الأوروبي من دون الحاجة إلى تصريح خاص، أما الآن فسوف يحتاج إلى تأشيرة دخول لزيارتها بالإضافة الى تكبد أعباء مالية إضافية للسفر. فضلاً عن ذلك، هناك شكوك وتساؤلات حول مصير عدد كبيرٍ من الموظفين البريطانيين الذين يعملون في مؤسسات أوروبية وعلى وجه الخصوص في بروكسل.
كما قد يقود خروج بريطانيا إلى تعقيد العلاقة مع جيرانها فربما تقوم إسبانيا بإغلاق حدودها مع جبل طارق الذي تبلغ مساحته 6 كيلومترات والملتصق بإقليم الأندلس حيث يعيش 33 ألف بريطاني. وفي الشمال، يمكن أن يؤدي ذلك إلى إقامة حدود بين إيرلندا الشمالية وجمهورية إيرلندا مما يؤثر في حركة الأفراد.
وقد بدأت الشكوك تتنامى حول مستقبل المملكة المتحدة وقدرتها على البقاء دولة موحدة بعد أن تعالت أصوات تطالب بإعادة طرح مسألة استقلال إسكتلندا, إذ يسعى دعاة استقلالها إلى بقائها عضواً في الاتحاد الأوروبي. وقد جاء التوجه هذا عبر رئيسة وزراء إسكتلندا نيكولا سترجن التي رأت أن تنظيم استفتاء جديد حول استقلال إسكتلندا بات مرجحاً جداً لأنها لا تريد أن يصبح الإسكتلنديون خارج الاتحاد الأوروبي رغماً عنهم بوصف أكثريتهم صوتت لمصلحة البقاء فيه.
بعيداً عن بريطانيا ومن الناحية الإستراتيجية، سيؤدي خروج بريطانيا إلى زيادة الضغوط على المحور الألماني - الفرنسي لزيادة إنفاقهما العسكري بهدف احتواء تأثير الغياب البريطاني على السياسية الدفاعية والأمنية الأوروبية. كما تتنامى الخشية الأوروبية من انتشار عدوى الاستفتاءات في أوروبا بما يدفع الأحزاب اليمينية إلى المطالبة بأن تحذو حذو بريطانيا وبخاصة في الدول التي تعاني أزمات اقتصادية (اليونان، إسبانيا، المجر، إيطاليا). إن هذا الأمر سيهدد عملية التكامل برمتها ويفاقم من حدة الشكوك حول قدرة الاتحاد على الصمود.
برأيكم هل سيصمد الإتحاد الأوروبي في حال مغادرة بريطانيا له؟ أم أن البريكست سيفشل؟
إذا تم الخروج وتم تفعيل المادة 50: هل ستقوم دول أخرى بعمل إستفتاءات مشابهة؟
#nael_d
المصادر:
— المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات
— المركز الديموقراطي العربي للدراسات الإستراتيجية, الاقتصادية والسياسية
.
قد يثير انتباهك أيضاً:
- مجموعة بريكس ... ما هو مستقبل الدولار الأمريكي بعد توسعها؟
- اقتصاد كأس العالم .. ليست مجرد مباراة فحسب!
- الجمعة السوداء أو Black Friday ... أنفق كل ما ادخرته في هذا اليوم, ولكن؟
- الاقتصاد الإسلامي وعلاجه لتداعيات جائحة كورونا ... هل هو الحل؟ (مقال رأي)
- الضريبة الوردية .. الرجال معفيين منها بلا شك!
- اقتصاد سنغافورة والتجربة السنغافورية .. ماذا ينقصنا؟
التعليقات